فصل: تفسير الآيات رقم (110 - 111)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت‏:‏ أن محمدًا إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر، ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم، غلام لبعض بطون قريش، وكان بياعا يبيع عند الصفا، فربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية، أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يَرُد جواب الخطاب فيما لا بد منه؛ فلهذا قال الله تعالى رادًا عليهم في افترائهم ذلك‏:‏ ‏{‏لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن أي‏:‏ فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن، في فَصَاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة، التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على نبي أرسل، كيف يتعلم من رجل أعجمي‏؟‏‏!‏ لا يقول هذا من له أدنى مُسْكة من العقل‏.‏

قال محمد بن إسحاق بن يَسَار في السيرة‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- كثيرًا ما يجلس عند المروة إلى مَبيعة غلام نصراني يقال له جبر، عبد لبعض بني الحضرمي، ‏[‏فكانوا يقولون‏:‏ والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام بن الحضرمي‏]‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ‏}‏ وكذا قال عبد الله بن كثير‏:‏ وعن عِكْرِمة وقتادة‏:‏ كان اسمه يعيش‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني أحمد بن محمد الطوسي، حدثنا أبو عامر، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان، عن مسلم بن عبد الله الملائي، عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قَينًا بمكة، وكان اسمه بلغام، وكان أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده، قالوا‏:‏ إنما يعلمه بلغام، فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

وقال الضحاك بن مزاحم‏:‏ هو سلمان الفارسي، وهذا القول ضعيف؛ لأن هذه الآية مكية، وسلمان إنما أسلم بالمدينة وقال عبيد الله بن مسلم‏:‏ كان لنا غلامان روميان يقرآن كتابا لهما بلسانهما، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بهما، فيقوم فيسمع منهما فقال المشركون‏:‏ يتعلم منهما، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وقال الزهري، عن سعيد بن المسيب‏:‏ الذي قال ذلك من المشركين رجل كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتد بعد ذلك عن الإسلام، وافترى هذه المقالة، قبحه الله‏!‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104 - 105‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ‏}‏

يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره وتَغَافل عما أنزله على رسوله، ولم يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الإيمان بآياته وما أرسل به رسله في الدنيا، ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة‏.‏

ثم أخبر تعالى أن رسوله ليس بمفتر ولا كَذَّاب؛ لأنه ‏{‏إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ‏}‏ على الله وعلى رسوله شِرارُ الخلق، ‏{‏الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ‏}‏ من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس‏.‏ والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا، معروفًا بالصدق في قومه، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدْعى بينهم إلا بالأمين محمد؛ ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان فيما قال له‏:‏ أو كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ فقال‏:‏ هرقل فما كان ليَدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106 - 109‏]‏

‏{‏مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏

أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر، وشرح صدره بالكفر واطمأن به‏:‏ أنه قد غَضب عليه، لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق، فطبع على قلوبهم فلا يعقلون بها شيئا ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها، ولا أغنت عنهم شيئا، فهم غافلون عما يراد بهم‏.‏

‏{‏لا جَرَمَ‏}‏ أي‏:‏ لا بد ولا عجب أن من هذه صفته، ‏{‏أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ الذين خسروا أنفسهم وأهاليهم يوم القيامة‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ‏}‏ فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله‏.‏

وقد روى العَوفِيّ عن ابن عباس‏:‏ أن هذه الآية نزلت في عمَّار بن ياسر، حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فوافقهم على ذلك مُكرَها وجاء معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، وهكذا قال الشعبي، وأبو مالك وقتادة‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثَور، عن مَعْمَر، عن عبد الكريم الجَزَريّ، عن أبي عبيدة ‏[‏بن‏]‏ محمد بن عمار بن ياسر قال‏:‏ أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كيف تجد قلبك‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ مطمئنا بالإيمان قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن عادوا فعد‏"‏‏.‏

ورواه البيهقي بأبسط من ذلك، وفيه أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، وأنه قال‏:‏ يا رسولالله، ما تُركتُ حتى سَببتك وذكرت آلهتهم بخير‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏كيف تجد قلبك‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ مطمئنا بالإيمان‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن عادوا فعد‏"‏‏.‏ وفي ذلك أنزل الله‏:‏ ‏{‏إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ‏}‏‏.‏

ولهذا اتفق العلماء على أنه يجوز أن يُوَالى المكرَه على الكفر، إبقاءً لمهجته، ويجوز له أن يستقتل، كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى أنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدَّة الحر، ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول‏:‏ أحَد، أحَد‏.‏ ويقول‏:‏ والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، رضي الله عنه وأرضاه‏.‏ وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب‏:‏ أتشهد أن محمدًا رسول الله‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم‏.‏ فيقول‏:‏ أتشهد أني رسول الله‏؟‏ فيقول‏:‏ لا أسمع‏.‏ فلم يزل يقطعه إرْبًا إرْبًا وهو ثابت على ذلك‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن عِكْرِمة، أن عليا، رضي الله عنه، حَرَّق ناسا ارتدوا عن الإسلام، فبلغ ذلك ابن عباس فقال‏:‏ لم أكن لأحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تعذبوا بعذاب الله‏"‏‏.‏ وكنت قاتلهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من بدل دينه فاقتلوه‏"‏ فبلغ ذلك عليا فقال‏:‏ ويح أم ابن عباس‏.‏ رواه البخاري‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضًا‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا مَعْمَر، عن أيوب، عن حُمَيْد بن هلال العَدَويّ، عن أبي بردة قال‏:‏ قدم على أبي موسى معاذُ بن جبل باليمن، فإذا رجل عنده، قال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال رجل كان يهوديا فأسلم، ثم تهود، ونحن نريده على الإسلام منذ -قال‏:‏ أحسب- شهرين فقال‏:‏ والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه‏.‏ فضربت عنقه‏.‏ فقال‏:‏ قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه- أو قال‏:‏ من بدل دينه فاقتلوه‏.‏ وهذه القصة في الصحيحين بلفظ آخر‏.‏

والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه، ولو أفضى إلى قتله، كما قال الحافظ ابن عساكر، في ترجمة عبد الله بن حُذَافة السهمي أحد الصحابة‏:‏ أنه أسرته الروم، فجاءوا به إلى ملكهم، فقال له‏:‏ تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي‏.‏ فقال له‏:‏ لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب، على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين، ما فعلت‏!‏ فقال‏:‏ إذا أقتلك‏.‏ قال‏:‏ أنت وذاك‏!‏ فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية، فيأبى ثم أمر به فأنزل، ثم أمر بِقِدْر‏.‏ وفي رواية‏:‏ ببقرة من نحاس، فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح‏.‏ وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرفع في البَكَرَة ليلقى فيها، فبكى فطمع فيه ودعاه فقال له‏:‏ إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة، تُلْقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله‏.‏ وفي بعض الروايات‏:‏ أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أياما، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يقربه، ثم استدعاه فقال‏:‏ ما منعك أن تأكل‏؟‏ فقال‏:‏ أما إنه قد حَلَّ لي، ولكن لم أكن لأشمتك فيّ‏.‏ فقال له الملك‏:‏ فَقَبِّلْ رأسي وأنا أطلقك‏.‏ فقال‏:‏ وتطلق معي جميع أسارى المسلمين‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقبل رأسه، فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب‏:‏ حَقّ على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ‏.‏ فقام فقبل رأسه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110 - 111‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏}‏

هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة، مهانين في قومهم قد واتوهم على الفتنة، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين، وصبروا، فأخبر الله تعالى أنه ‏{‏مِنْ بَعْدِهَا‏}‏ أي‏:‏ تلك الفعلة، وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم، رحيم بهم يوم معادهم‏.‏

‏{‏يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ‏}‏ أي‏:‏ تحاج ‏{‏عَنْ نَفْسِهَا‏}‏ ليس أحد يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة ‏{‏وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ‏}‏ أي‏:‏ من خير وشر، ‏{‏وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا ينقص من ثواب الخير ولا يزاد على ثواب الشر ولا يظلمون نقيرًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112 - 113‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏

هذا مثل أريد به أهل مكة، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يُتخطَّف الناس من حولها، ومن دخلها آمن لا يخاف، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏

وهكذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا‏}‏ أي‏:‏ هنيئها سهلا ‏{‏مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ جحدت آلاء الله عليها وأعظم ذلك بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 28، 29‏]‏‏.‏ ولهذا بدَّلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما، فقال‏:‏ ‏{‏فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ‏}‏ أي‏:‏ ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يُجبى إليهم ثمرات كل شيء، ويأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، وذلك لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم، فأكلوا العِلْهِز -وهو‏:‏ وبر البعير، يجعل بدمه إذا نحروه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالْخَوْفِ‏}‏ وذلك بأنهم بُدِّلوا بأمنهم خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حين هاجروا إلى المدينة، من سطوة سراياه وجُيوشه، وجعلوا كل ما لهم في سَفَال ودمار، حتى فتحها الله عليهم وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول الذي بعثه الله فيهم منهم، وامتن به عليهم في قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولا ‏[‏يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏]‏‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 10، 11‏]‏ الآية وقوله ‏:‏ ‏{‏كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَكْفُرُونِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 151، 152‏]‏‏.‏

وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم، فخافوا بعد الأمن، وجاعوا بعد الرغد، بَدَّل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا، ورزقهم بعد العَيْلَة، وجعلهم أمراء الناس وحكامهم، وسادتهم وقادتهم وأئمتهم‏.‏

وهذا الذي قلناه من أن هذا المثل مضروب لمكة، قاله العوفي، عن ابن عباس‏.‏ وإليه ذهب مجاهد، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏ وحكاه مالك عن الزهري، رحمهم الله‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني ابن عبد الرحيم البَرْقي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا نافع بن زيد، حدثنا عبد الرحمن بن شُرَيْح، أن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي حدثه، أنه سمع مشْرَح بن هاعان يقول‏:‏ سمعت سليم بن عتر يقول‏:‏ صدرنا من الحج مع حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وعثمان، رضي الله عنه، محصور بالمدينة، فكانت تسأل عنه‏:‏ ما فعل‏؟‏ حتى رأت راكبين، فأرسلت إليهما تسألهما، فقالا قتل‏.‏ فقالت حفصة‏:‏ والذي نفسي بيده، إنها القرية التي قال الله‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ‏}‏ قال أبو شريح‏:‏ وأخبرني عبيد الله بن المغيرة، عمن حدثه‏:‏ أنه كان يقول‏:‏ إنها المدينة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114 - 117‏]‏

‏{‏فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بأكل رزقه الحلال الطيب، وبشكره على ذلك، فإنه المنعم المتفضل به ابتداء، الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له‏.‏

ثم ذكر ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم، من الميتة والدم، ولحم الخنزير‏.‏

‏{‏وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ ذبح على غير اسم الله، ومع هذا ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ‏}‏ أي‏:‏ احتاج في غير بغي ولا عدوان، ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة ‏"‏البقرة‏"‏ بما فيه كفاية عن إعادته، ولله الحمد ‏[‏والمنة‏]‏‏.‏

ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين، الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وضعوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم، من البَحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وغير ذلك مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ‏}‏ ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس ‏[‏له‏]‏ فيها مستند شرعي، أو حلل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهِّيه‏.‏ و‏"‏ما‏"‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لِمَا‏}‏ مصدرية، أي‏:‏ ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم‏.‏

ثم توعد على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏ أما في الدنيا فمتاع قليل، وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم، كما قال‏:‏ ‏{‏نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 24‏]‏

وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 69، 70‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏

لما ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وأنه أرخص فيه عند الضرورة -وفي ذلك توسعة لهذه الأمة، التي يريد الله بها اليسر ولا يريد بها العسر -ذكر سبحانه وتعالى ما كان حَرَّمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها، وما كانوا فيه من الآصار والأغلال والحرج والتضييق، فقال‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ في ‏"‏سورة الأنعام‏"‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ‏[‏أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ‏]‏‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏؛ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ فيما ضيقنا عليهم، ‏{‏وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ فاستحقوا ذلك، كما قال‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏‏.‏

ثم أخبر تعالى تكرمًا وامتنانًا في حق العصاة المؤمنين‏:‏ أن من تاب منهم إليه تاب عليه، فقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ‏}‏ قال بعض السلف‏:‏ كل من عصى الله فهو جاهل‏.‏

‏{‏ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا‏}‏ أي‏:‏ أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي، وأقبلوا على فعل الطاعات، ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا‏}‏ أي‏:‏ تلك الفعلة والذلة ‏{‏لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120 - 123‏]‏

‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏

يمدح ‏[‏تبارك و‏]‏ تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم، إمام الحنفاء ووالد الأنبياء، ويبرئه من المشركين، ومن اليهودية والنصرانية فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا‏}‏ فأما ‏"‏الأمة‏"‏، فهوالإمام الذي يقتدى به‏.‏ والقانت‏:‏ هو الخاشع المطيع‏.‏ والحنيف‏:‏ المنحرف قصدًا عن الشرك إلى التوحيد؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ قال سفيان الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مسلم البَطِين، عن أبي العبيدين‏:‏ أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت، فقال‏:‏ الأمة‏:‏ معلم الخير، والقانت‏:‏ المطيع لله ورسوله‏.‏ وعن مالك قال‏:‏ قال ابن عمر‏:‏ الأمة الذي يعلم الناس دينهم‏.‏

وقال الأعمش، ‏[‏عن الحكم‏]‏ عن يحيى بن الجزار، عن أبي العُبَيدين؛ أنه جاء إلى عبد الله فقال‏:‏ مَنْ نسأل إذا لم نسألك‏؟‏ فكأن ابن مسعود رقَّ له، فقال‏:‏ أخبرني عن الأمة فقال‏:‏ الذي يعلم الناس الخير‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ حدثني فروَة بن نوفل الأشجعي قال‏:‏ قال ابن مسعود‏:‏ إن معاذًا كان أمة قانتا لله حنيفا، فقلت في نفسي‏:‏ غلط أبو عبد الرحمن، إنما قال الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً‏}‏ فقال‏:‏ أتدري ما الأمة وما القانت‏؟‏ قلت‏:‏ الله ‏[‏ورسوله‏]‏ أعلم‏.‏ قال‏:‏ الأمة الذي يعلم ‏[‏الناس‏]‏ الخير‏.‏ والقانت‏:‏ المطيع لله ورسوله‏.‏ وكذلك كان معاذ معلم الخير‏.‏ وكان مطيعا لله ورسوله‏.‏

وقد روي من غير وجه، عن ابن مسعود؛ حرره ابن جرير‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏أُمَّةً‏}‏ أي‏:‏ أمة وحده، والقانت‏:‏ المطيع‏.‏ وقال مجاهد أيضًا‏:‏ كان إبراهيم أمة، أي‏:‏ مؤمنا وحده، والناس كلهم إذ ذاك كفار‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان إمام هُدى، والقانت‏:‏ المطيع لله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏شَاكِرًا لأنْعُمِهِ‏}‏ أي‏:‏ قائما بشكر نعم الله عليه، كما قال‏:‏ ‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 37‏]‏، أي‏:‏ قام بجميع ما أمره الله تعالى به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اجْتَبَاهُ‏}‏ أي‏:‏ اختاره واصطفاه، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 51‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً‏}‏ أي‏:‏ جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة، ‏{‏وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ وقال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً‏}‏ أي‏:‏ لسان صدق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏}‏ أي‏:‏ ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه، أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء‏:‏ ‏{‏أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ كما قال‏:‏ في ‏"‏الأنعام‏"‏‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 161‏]‏، ثم قال تعالى منكرا على اليهود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏

لا شك أن الله تعالى شرَع في كل ملة يوما من الأسبوع، يجتمع الناس فيه للعبادة، فشرع تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة؛ لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة، واجتمعت ‏[‏الناس‏]‏ فيه وتمت النعمة على عباده‏.‏ ويقال‏:‏ إنه تعالى شرع ذلك لبني إسرائيل على لسان موسى، فعدلوا عنه واختاروا السبت؛ لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئًا من المخلوقات الذي كمل خلقها يوم الجمعة، فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة، ووصاهم أن يتمسكوا به وأن يحافظوا عليه، مع أمره إياهم بمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه‏.‏ وأخذه مواثيقهم وعهودهم على ذلك؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ اتبعوه وتركوا الجمعة‏.‏

ثم إنهم لم يزالوا متمسكين به، حتى بعث الله عيسى ابن مريم، فيقال‏:‏ إنه حوَّلهم إلى يوم الأحد‏.‏ ويقال إنه‏:‏ لم ‏[‏يترك شريعة التوراة إلا ما نسخ من بعض أحكامها وإنه لم‏]‏ يزل محافظًا على السبت حتى رفع، وإن النصارى بعده في زمن قسطنطين هم الذين تحولوا إلى يوم الأحد، مخالفة لليهود، وتحولوا إلى الصلاة شرقا عن الصخرة، والله أعلم‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين، من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن همام، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد‏"‏‏.‏ لفظ البخاري‏.‏

وعن أبي هريرة، وحذيفة، رضي الله عنهما، قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة، والمقضي بينهم قبل الخلائق‏"‏‏.‏ رواه مسلم ‏[‏والله أعلم‏]‏ ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ‏}‏

يقول تعالى آمرًا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الله ‏{‏بِالْحِكْمَةِ‏}‏

قال ابن جرير‏:‏ وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة ‏{‏وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ‏}‏ أي‏:‏ بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم بها، ليحذروا بأس الله تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ أي‏:‏ من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 46‏]‏ فأمره تعالى بلين الجانب، كما أمر موسى وهارون، عليهما السلام، حين بعثهما إلى فرعون فقال‏:‏ ‏{‏فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ‏}‏ أي‏:‏ قدم علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه، فادعهم إلى الله، ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير، عليك البلاغ، وعلينا الحساب، ‏{‏إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏، و‏{‏لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 272‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126 - 128‏]‏

‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ‏}‏

يأمر تعالى بالعدل في الاقتصاص والمماثلة في استيفاء الحق، كما قال عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد، عن ابن سيرين‏:‏ أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‏}‏ إن أخذ منكم رجل شيئًا، فخذوا منه مثله‏.‏

وكذا قال مجاهد، وإبراهيم، والحسن البصري، وغيرهم‏.‏ واختاره ابن جرير‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين، فأسلم رجال ذوو منعةٍ، فقالوا‏:‏ يا رسولالله، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب‏!‏ فنزلت هذه الآية، ثم نسخ ذلك بالجهاد‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يَسَار قال‏:‏ نزلت سورة ‏"‏النحل‏"‏ كلها بمكة، وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد، حيث قتل حمزة، رضي الله عنه، ومثل به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بثلاثين رجلا منهم‏"‏ فلما سمع المسلمون ذلك قالوا‏:‏ والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏

وهذا مرسل، وفيه ‏[‏رجل‏]‏ مبهم لم يسم، وقد روي هذا من وجه آخر متصل، فقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا صالح المري ، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه، حين استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه‏.‏ أو قال‏:‏ لقلبه ‏[‏منه‏]‏ فنظر إليه وقد مُثِّل به فقال‏:‏ ‏"‏رحمة الله عليك، إن كنت -لما علمتُ- لوصولا للرحم، فعولا للخيرات، والله لولا حزن من بعدك عليك، لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع -أو كلمة نحوها- أما والله على ذلك، لأمثلن بسبعين كمثلتك ‏.‏ فنزل جبريل، عليه السلام، على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه السورة وقرأ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‏}‏ إلى آخر الآية، فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني‏:‏ عن يمينه- وأمسك عن ذلك‏.‏

وهذا إسناد فيه ضعف؛ لأن صالحا -هو ابن بشير المري- ضعيف عند الأئمة، وقال البخاري‏:‏ هو منكر الحديث‏.‏

وقال الشعبي وابن جُرَيْج‏:‏ نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم‏:‏ لنمثلن بهم‏.‏ فأنزل الله فيهم ذلك‏.‏

وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه‏:‏ حدثنا هدِيَّة بن عبد الوهاب المروزي، حدثنا الفضل بن موسى، حدثنا عيسى بن عبيد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال‏:‏ لما كان يوم أحد، قتل من الأنصار ستون رجلا ومن المهاجرين ستة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لَنُرْبِيَنَّ عليهم‏.‏ فلما كان يوم الفتح قال رجل‏:‏ لا تعرف قريش بعد اليوم‏.‏ فنادى مناد‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن الأسود والأبيض إلا فلانا وفلانا -ناسا سماهم- فأنزل الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ‏[‏فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ‏]‏‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نصبر ولا نعاقب‏"‏‏.‏

وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا‏}‏ ثُمَّ قَالَ ‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وقال ‏{‏وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ‏}‏ ثُمَّ قَالَ ‏{‏فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏، وقال في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‏}‏ ثُمَّ قَالَ ‏{‏وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ‏}‏ تأكيد للأمر بالصبر، وإخبار بأن ذلك إنما ينال بمشيئة الله وإعانته، وحوله وقوته‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ على من خالفك، لا تحزن عليهم؛ فإن الله قدر ذلك، ‏{‏وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ‏}‏ أي‏:‏ غم ‏{‏مِمَّا يَمْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ مما يجهدون ‏[‏أنفسهم‏]‏ في عداوتك وإيصال الشر إليك، فإن الله كافيك وناصرك، ومؤيدك، ومظهرك ومظفرك بهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ معهم بتأييده ونصره ومعونته وهذه معية خاصة، كقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏، وقوله لموسى وهارون‏:‏ ‏{‏لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 46‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصديق وهما في الغار‏:‏ ‏{‏لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا ‏[‏إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏]‏‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ اتَّقَوْا‏}‏ أي‏:‏ تركوا المحرمات، ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ فعلوا الطاعات، فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم، وينصرهم ويؤيدهم، ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا

مِسْعر، عن ابن عون، عن محمد بن حاطب قال‏:‏ كان عثمان، رضي الله عنه، من الذين آمنوا، والذين اتقوا، والذين هم محسنون‏.‏

‏[‏آخر تفسير سورة النحل ولله الحمد أجمعه والمنة، وبه المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل‏]‏